رزحت أمّة العرب تحت كمّ هائل من المؤامرات والخطط الجهنّميّة التي رنا أصحابها لكسر مقوّمات مناعتها وتماسكها وهدم عزّتها القوميّة، ونفّذت الدّسائس بأشكال مختلفة متباينة وبطرق متشابكة قامت أساسا على التّقسيم والعمل المسلّح وخاصّة الغزو الفكريّ والحضاريّ المستند للمقدرات التّقنيّة والعلميّة رأسا.
واعتمد السّاعون لتمزيق النّسيج العربيّ وتقويض تناسق الجماهير واشتراكها منقطع النّظير في جملة من الركائز المميّزة للأمم كاللّغة والإرث الحضاريّ والفكريّ والتّاريخ والمصير المشتركين ناهيك عن الامتداد الجغرافيّ الطبيعيّ الذي لا فواصل فيه ولا عوائق تحول دون التّنقّل بحريّة تامّة ويسر شديد، وعليه جاءت خطط فصل شطري الوطن الشّرقيّ والغربيّ وإنشاء كيان غريب هجين في قلبه.
ومنذ الحملة الاستعماريّة التي استهدفت الوطن والأمّة، كان هدف الصّهيونيّة العالميّة والامبرياليّة تركيع هذه الكتلة البشريّة وفرض شتى تلاوين الميوعة والتّفسّخ والانحلال وانخرام عرى التّراصّ الاجتماعيّ وتخريب رصيدها الأخلاقيّ والعقائديّ لما قدّرته التّوصيات الاستراتيجيّة التي أعقبت أخطر وأشهر وأكبر المؤتمرات في الغرب الاستعماريّ والتي اعتبرت أنّ ما من مهدّد حقيقيّ لاستمرار التّمدّد الامبرياليّ إلاّ قيام وحدة عربيّة حقيقيّة وشاملة.
لقد عبّرت سلسلة الاعتداءات المتواترة ضدّ العرب منذ اقتطاع الأحواز العربيّة واغتصاب فلسطين والحرب الظّالمة على مصر ثم حرب 67 و73 ودفعة الحروب الغادرة على العراق منذ 1980 لليوم في فصولها المتنوّعة عن حقيقة وحيدة تمثّلت في احتدام الخطوات الشّيطانيّة لإفراغ العروبة من جوهرها وتنفير أهلها منها ودفعهم للكفر بها بما يخدم المصالح الصّهيونيّة والاستعماريّة.
شكّلت فلسطين ولا تزال إحدى أكبر قضايا العرب محوريّة، وصبّوا بالتّالي كل جهودهم الصّادقة في سبيل دعمها وتحريرها رغم تهاون النّظام الرّسميّ العربيّ وتواطئه مع الأعداء باستثناء التّجربتين النّاصريّة في مصر والبعثيّة في العراق والجزائر في سنين تحرّرها الأولى، وتوافدت أمواج بشريّة عربيّة متلاطمة وأقبلت على فلسطين إسهاما في ملاحقة العدوّ الغاصب.
وكعادتها تفطّنت الصّهيونيّة العالميّة والامبرياليّة لهذا الوهج والإيمان القوميّ العربيّ المتأصّل في الجماهير فعملت ما بوسعها لامتصاصه واحتوائه بشتّى السّبل. وفي الحقيقة فإنّ ما تعرّضت له أقطار الوطن العربيّ وجماهير الأمّة من تدمير وغزو وتنكيل وحشيّ وإرهاب لا يهدأ خصوصا منذ غزو العراق وما تلاه من خراب واسع أضحى معه حفاظ المواطن العربيّ على توازنه وقدرته على تبويب أهدافه ومصالحه مستعصيا بل شبه مستحيل حسب تقديرات دهاقنة الأعداء، كان يهدف لأمرين رئيسيّين علاوة على ما تقدّم وهما تباعا صرف أنظار العرب وتشتيتها وتحويلها عن فلسطين، وضرب المقاومة فعلا ووعيا باعتبارها إحدى بصمات الأمّة العربيّة الأهمّ.
إلاّ أنّه وبالرّغم على ما تنفقه دوائر الأعداء من أموال ضخمة، ورغم ابتداعها لجميع الوسائل والمخطّطات المدروسة بعناية فائقة لتحقيق تلك الأغراض، فإنّها تصعق باستمرار بفشل رهانها وانحسار مكائدها.
ففي هذا السّياق، جاءت عمليّة دهس كمشة من جنود العصابات الصّهيونيّة في فلسطين المحتلّة التي نفّذها الأسير البطل الشّهيد فادي القنبر يوم 08 -01-2017 مخترقا التّحصينات الكبيرة والتّدابير الوقائيّة الصّارمة التي تتمتّع بها فرق النّخبة في جيش العدوّ الصّهيونيّ لتكبّده خسائر جسيمة لا بما حصدته من جِيَف بل لرمزيّتها ومدلولاتها النّفسيّة.
فعمليّة الدّهس أكّدت مرّة أخرى على أنّ المقاومة فعل متجذّر في الوعي العربيّ لا يهتزّ ولا يتزحزح ولا يتآكل أو يتراجع منسوب رسوخه في الوجدان الجماهيريّ مهما بلغت درجات الانكسار ولا حدّة الشّروخ التي قد تسيطر عليه ردحا من الدّهر. وهذا الفعل المقاوم، والإصرار عليه أكبر ما يؤرّق الأعداء ويقضّ مضاجعهم، ليس لما يخلّفه من خسائر أو ما يسبّبه من عثرات للمشاريع الكبرى، ولكن لأنّه يظلّ حاجزا صلبا ومتينا يشي باستحالة تطويع العرب والنّيل من جهادهم التّوّاق للتّحرّر والانعتاق في سعي لمعانقة الحياة بعزّة وشموخ وإباء وكرامة لا امتهان فيها ولا إذلال.
إنّ أمر هذه الأمّة عجب، فهي تظلّ نابضة بالحياة متشبّثة بالأمل متمسّكة بحقوقها ذائدة عنها مضحّية في سبيلها بالنّفس والنّفيس في أحلك فتراتها التّاريخيّة وفي أشدّ مظاهر الوهن استفحالا فيها.
وإنّ أمر هذه الأمّة عجب، فهي تبقي زاند المقاومة متوثّبا في كلّ سوح الوطن مستهزئة بالفوارق الشّاسعة بين ما يمتلكه الأعداء من أساليب التّفوّق النّوعيّ وبين ما لها من أساليب رادعة، وتتزوّد بإيمانها الكبير بعدالة قضاياها فلا تحفل بالحسابات الفنيّة والمقاييس العلميّة ولا يثنيها ذلك كلّه عن ابتداع الطّرق الموجعة والحلول التي تجبر الأعداء على التّقهقر والتّراجع.
وإنّ أمر هذه الأمّة عجب، فرغم مساعي تشظيتها وتفتيتها وفصلها، تتوحّد في استذكار مخزون الشّجاعة والفروسيّة والاستبسال، وتتوحّد عمليّة دهس الجنود المغتصبين الصّهاينة مع عبقريّة المقاومة العراقيّة الباسلة وصمودها بوجه أقوى آلات الفتك والتّدمير العالميّة وتتعانق مع صمود مقاومة شعبنا العربيّ في الأحواز السّليبة.
وهكذا، يقيم الشّهيد البطل فادي القنبر الحجّة ساطعة على أنّ تجذّر المقاومة في العرب أمر لا مناص من الاعتراف به ولا سبيل لتجريد الأمّة منها، وأنّه سيظلّ باعث الطّمأنينة والوثوق بأنّ مكابدة الأمّة ومٌشَاقّتها لسلسلة الاعتداءات الإرهابيّة الغادرة ومحاولات تتويج الغزو والاستيلاب الحضاريّ إنّما هو فعل جبّار راسخ وأصيل ينضح يقظة وإيمانا وثباتا جمعيّا لا ينفكّ عن النّموّ حتّى تحقيق الأحلام مهما حاول الأعداء وعملاؤهم المتخاذلون تصويرها على أنّها بعيدة المنال.
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 10-01-2017