أبو محمد عبد الرحمن
نبض العروبة المجاهدة
يمكن القول بل أجزم بأن هناك عقلاً عربياً متميزاً، ولأن المجتمع العربي مر بأدوار تختلف عن أي مجتمع آخر، تراكمت خلالها الأحداث والوقائع والقيم، فأصبحت جزءاً من الثقافة التي تشكل العقل العربي.
وللأسف الشديد فإن العقل العربي، وبالتالي المواطن العربي، سجين في سجون منيعة متنوعة، وما أن يظهر بعض من ذوي الأفكار الثورية النيرة حتى يتعاون على قمعه ورفضه وإلغائه كل من السلطة الحاكمة، والمجتمع بأفراده الذين ألفوا سجنهم الدائم، واستساغوا قهرهم الأبدي.
من هنا تبرز أهمية نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل، باعتبارها تحاول أن تحلل وتفسر طرق التفكير كما تحاول أن تلقي ضوءاً على أبعاد "زنزانة" السجن التي يقبع فيها العقل البشري، إن صح التعبير،
* فالعقل العربيّ سجينُ سلطات متعددة، سواء رسميّة أو مجتمعيّة، ثقافيّة ودينيّة، خارجيّة أو ذاتيّة
* العقلُ العربيّ سجينُ قَهره السياسيّ الذي يفرضُ عليه أن يُصفِـقَ للحاكم بأمره،
* العقلُ العربيّ سجينُ ضرورات وحاجات الجسد اليومية من غذاء ودواء وبحث عن عمل يعيله وأسرته.
الواقع الذي يعيشه الوطن العربي اليوم يواجه خصماً متطوراً من جهة، وطامعاً إلى استغلال واستنزاف ثرواتنا الطبيعية والبشرية، بما فيها النفط والمياه، والأيدي العاملة الوفيرة والرخيصة، والسوق التجارية وقوامها٣٠٠ مليون مستهلك عربي من جهةٍ أُخرى.
ونحن، ثانياً، نعاني التشرذم والتمزق والفساد، والاستئثار بالسلطة، والاستبداد والحرمان من الحريات الأساسية.
ونعاني التخلف، بما فيه الفقر والأمية والجهل.
لذا فإن الاعتزاز بالذات لن يتحقق عن طريق التبجح الفارغ، الذي يدل على ردة فعل غيرِ سوية، ناتجةٍ عن الشعورِ بالدونية الذي أساسه الشعور بالفشل الواقعي الراهن، بل يتبلور هذا الاعتزاز من خلال التفهم العميق لأهمية تراثنا ومن أجل تحليل حاضرنا وتفكيكه، باعتباره امتداداً لماضينا، بكل ما فيه من سلبيات أو إيجابيات، ثم إعادة بناء هذا الحاضر، لتحقيق مستقبل أفضل.
نحن لا نريد أن نتخلى عن تراثنا، أو أن نضعه في المتاحف بل على العكس نرى أنه يجب أن يظل محور عملنا الدؤوب لتفهمه وهضمه، لا مواصلة اجتراره، واستعادة التنويه به، والتغني بأمجاده فقط، ذلك مع الالتفاتِ إلى مدى علاقته بحياتِنا الراهنة، ومعضلاتنا المستحكمة.
لا يمكن إحياء هذا التراث، أو إنقاذه، عن طريق الدعوةِ إلى ما كان عليه قبل خمسة عشر قرناً مضت، فهذا معناه رجوع إلى الخلف، وعقارب ساعة التاريخ لن تعود إلى الوراء مطلقاً.
فلم يحدثْ في التاريخ أن استعادت حضارة ما مجدها القديم بالعودةِ إلى الماضي. بل أعادت بعض الشعوب مجد حضارتها من خلال اقتباسِ نهج جديد، مستفيدة من آخر ما توصلت إليه الحضارة الحديثة من علم وتكنولوجيا وفلسفة وفكر.
ومن جهة أُخرى، فإن الانطواء على الذات والانعزال عن العالم والإصرار على العودة إلى الماضي كرد فعل مباشر للإحباط الذي نعانيه اليوم، هو في الواقع اعتراف بانكسارِ هذه الأمة واستسلامِها للانهيار الكامل. هذا بالإضافة إلى أننا سنصبح، في هذه الحالة، لقمة سائغة لاستغلال” الآخَر“ لنا، بل سيطرتِه التامة على مقدراتنا، واستعباده أهلنا، ونهب ثرواتنا وأراضينا. وهنا ننتقل لما أوردناه في المقدمة فإن الانتقال من واقع الانفعال (العقل المنفعل) إلى واقع الفعل (الإبداع/العقل الفاعل) يشكل العامل الحاسم الذي يمكن أن ينقذ هذه الأمة من هذه الغمة.
ولا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة طفت على السطح مؤخراً في ما سمي (بالصحوة الإسلامية) فيرى بعض من المفكرين بأنها لا تفي بما هو مطلوب من المسلمين في هذه الظروفِ التي تتحداهم فيها الحياة المعاصرة بمختلف مظاهرها وتعقيداتِها.
لأن الصحوة انفعال لا فعل، والمسلمون محتاجون بل مطالبون بالفعل وليس بمجرد الانفعال.
وما نشهده اليوم من اصطفافات طائفية ومذهبية لا تعدو كونها سوى انفعال متبادل لحالة ملتبسة ومغلفة بأثواب عجمية المنشأ تمنع من الانخراط في الحياة المعاصرة وبالتالي تشدنا إلى دوامة
الثقب الأسود ...
إنقاذ الأمة من واقعها الحالي يستوجب جعل التراث والحضارة قاعدة انطلاق لمستقبل أفضل من خلال الإبداع والتطور لكي يتناسب مع تطور الحياة في مجالاتها كافة بعقل فاعل وجهد مثابر يستثمر الإيجابيات ويتجاوز السلبيات. لا ينسخ التجارب بعقل غير فاعل لأن ذلك يمكن أن نسميه (التقدم إلى الخلف) وهذا يعني استمرار التخلف لا بل تعميمه.