في متابعة للوضع السّوريّ وتطوّراته المتسارعة، يحضرنا بيسر شديد تداخل المحاور الفاعلة فيه مقابل تخلّي الزّمرة الحاكمة عن أيّ دور باستثناء مزيد تقتيل جماهير شعبنا والتّحرّك وفق ما يضمن لها البقاء في منصّة الحكم، ونسجّل بالقدر ذاته تداخل وتشابك هذه المحاور وتنافرها وتصادمها والتقائها في الوقت نفسه في نقاط كثيرة.
ورغم إدراكنا للحقيقة الثّابتة الوحيدة وهي أنّ كلّ هذه المحاور لا تختلف فيما بينها إلاّ بما يضمن نصيب كلّ طرف فيها من الكعكة السّوريّة، وخاصّة تماهيها في السّعي لتخريب سوريّة والتّنكيل بشعبها الأعزل المغدور خدمة للمشروع الشيطانيّ الأمريكيّ الصّهيونيّ الذي انطلق بغزو العراق عام 2003 وتواصلت ارتداداته وتداعياته في أرجاء الوطن العربيّ كافّة، ورغم مساعينا لعرض هذه الحقيقة بإطناب حتّى يفكّ العرب أحزابا ومنظّمات وهيئات وأفرادا عن التّخندق في غير محور الشّعب العربيّ في سوريّة إلاّ أنّ ذلك لم يحظ بغير الاستخفاف والاستنكار ومن ثمّة لاذ أغلب من خاطبناهم بمزيد من التّنطّع والهرولة خلف تلك المحاور كلّ حسب هواه وارتباطاته وما تدرّه عليه تلك السّياسة من عوائد.
لقد رصدنا في مقالات سابقة بداية ظهور تصدّع في المحور الرّوسيّ الإيرانيّ وهو ما تشي به التّصريحات الرّسميّة من الجانبين بخصوص المشهد السّوريّ مؤخّرا، وكذلك التّقارب الرّوسيّ التّركيّ المتسارع للحدّ الذي اعتبرت فيه موسكو أنقرة شريكا لا غنى عنه في حلّ الملفّ السّوريّ.
يتعمّق هذا التّصدّع مع الأحداث الرّاهنة وتحديدا في المؤتمر المزمع عقده في الآستانة والمخصّص لدراسة سبل التّسويات الممكنة للأزمة السّوريّة ويشرف عليه رأسا الرّوس والأتراك والفرس، ويفتح فيه مجال المشاركة لكلّ الأطراف السّوريّة من النّظام وصولا لأكثر الجماعات المصنّفة إرهابيّة سابقا باستثناء داعش.
يغصّ هذا المؤتمر بالتّناقضات المثيرة والمفارقات اللاّفتة، فهو يعقد بتخطيط وإشراف الثّلاثي الرّوسيّ التّركيّ الإيرانيّ وسط غياب كلّي للنّظام الأسديّ من جهة، ووسط إقصاء الولايات المتّحدة الأمريكيّة من جهة ثانية مع غياب محيّر للعرب.
غياب الولايات المتحدة الأمريكيّة، أو مشاركتها في هذا المؤتمر من عدمه تحديدا، شكّل نقطة خلاف حادّ بين روسيا وإيران، حيث ترى موسكو أنّ وجود واشنطن ضروريّ ومهمّ ومصيريّ وذلك لما لها من ثقل سياسيّ وعسكريّ ومخابراتيّ واقتصاديّ ولما تمتلكه من مفاتيح عديدة لا في سوريّة والمنطقة فقط بل وفي العالم وبالتّالي فهي مقتنعة أنّ أيّ تسوية تستوجب مشاركتها فيها، ويأتي هذا في إطار أوسع وأشمل هو اقتناع روسيا أنّها لا تتحرّك في سوريّة بمعزل عن قرار أمريكا بل وبالتّنسيق معها والانضباط لها ولمخطّطاتها وهو أمر وإن كان فيه إهانة لوريث الاتّحاد السّوفييتيّ فإنّه لا مناص منه لاستعادة بعض من أمجاده وسطوته وحضوره.. وفي المقابل تواترت المواقف الإيرانيّة الرّافضة لمشاركة أمريكا رفضا قاطعا وصدر أكثر هذه المواقف تطرّفا من وزير الخارجيّة الإيرانيّ الذي اعتبر أنّ لا حاجة ولا فائدة في مشاركة أمريكا في أيّ تسوية مرتقبة، وكذلك تصريحات أغلب القيادات السّياسيّة والدّينيّة العليا في البلاد. بل إنّ ظريف ذهب للقبول على مضض بإمكانيّة حضور واشنطن كمراقب إذا ما قرّرت الجهة المحتضنة للمؤتمر دعوتها.
إنّ هذا التّباين البعيد في المواقف بين روسيا وإيران حول حضور الولايات المتّحدة في المؤتمر، لم يأت من فراغ، بل هو تتويج لاختلاف وصراع قويّ ظلّ سرّيّا أو عصيّا عن الإدراك إلاّ للملمّين بجوهر الأحداث في السّاحة العربيّة وما يعدّ لها من مكائد ومؤامرات قد تبدو في ظاهرها منفصلة ولكنّها متناغمة ومتجانسة لا تزيد التّناقضات فيها عن التّعمية حينا وتبادل الأدوار والتّكتيكات أحيانا.
ولقد نضحت المواقف الإيرانيّة مؤخّرا بما يعبّر عن توجّسها من تنامي الدّور الرّوسيّ في سوريّة، وجاء التّصريح الذي اعتبر فيه رجل الدّين الإيرانيّ مهدي طائب سوريّة المحافظة الفارسيّة رقم 35 ومؤكّدا على أنّها أهمّ من الأحواز بالنّسبة لإيران ليحذّر من أيّ تجاهل للقيمة الاستراتيجيّة لسوريّة في معادلات إيران ورهاناتها ومخطّطاتها، ناهيك عن الاستياء العميق من الانفتاح الرّوسيّ الوثيق على تركيا.
ولعلّ من أكبر مظاهر التّصدّع في الحلف الرّوسيّ الإيرانيّ هو تصريح لافروف الذي أكّد فيه على أنّ دمشق كانت ستسقط لا محالة في ظرف أسبوعين لولا تدخّل الرّوس العسكريّ هناك. وهو التّصريح الذي أثار ثائرة المرتبطين بإيران ونغولها خصوصا، كما لم تستسغه الدّوائر الرّسميّة في طهران وهو ما جعلها تتشبّث برفض مشاركة الأمريكان في مؤتمر الآستانة.
وإنّ من أهم ملامح تصدّع الحلف الرّوسيّ أيضا علاوة على ما ذكر، وما ذكرناه في مقالات سابقة، هو ما عبّر عنه وزير الخارجيّة الفارسيّ ظريف من دعوة السّعوديّة من جينيف لبدء حقبة جديدة من العلاقات بينهما مشدّدا على أنّ لا مبرّر للتّصادم بين طهران والرّياض في تطوّر مفاجئ وغير منتظر خصوصا بعد ان صرّح ظريف نفسه على ضرورة استبعاد المشاركة السّعوديّة في مؤتمر الآستانة.
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 19-01-2017