عن شطحات معن بشور
إنّ صفة المثقّف عموما والمثقّف العضويّ تحديدا ليست نيشانا ولا وشاحا يتقلّده أحدهم من حيث الادّعاء أو صبغه عليه من الآخرين، وهي ليست مرتبطة بحال من الأحوال بالشّهائد العلميّة – على أهمّيتها – ولا بالعطاء النّضاليّ لفترة محدودة أو ممتدّة قد ينقلب فيها هذا المثقّف على مبادئه ويستبدلها بأخرى مناقضة تماما لقضاياه وهي العمليّة الارتداديّة التي قد يتحايل بها هذا المثقّف على متابعيه فيصنّفها في دائرة المراجعة والتّحيين والتّطوير.
وإنّ من أهمّ الخصائص التي يجب على المثقّف ليكون عضويّا بامتياز وعن استحقاق، أن ينتصر في نضالاته وفي تفكيره وفي كافّة مقارباته للحقّ وللمستضعفين والمضطهدين وأن يسعى لمطاردة المعتدين والمفسدين والمجرمين في شتّى المجالات هازئا بما قد ينجم عن ذلك من تبعات، كما يحرّم على هذا المثقّف الارتباط بغير ما يوصيه به ضميره من جهة وبما يقدّره صالحا عامّا ذلك أنّ إطار النّضال والتّنوير والتّثوير لا يختصّ به لذاته بل هو موجّه للجماهير التي يهب نفسه في سبيل تخليصها من آلامها ومظاهر استعبادها وقمعها ويضحّي من أجل كسر كلّ ما قد يضرب عليها من طوق وحصار وما يسلّط عليها من قهر وغبن.
تتعمّق الرّهانات على المثقّف العضويّ وتزداد انتظارات المعنيّين بإنتاجاته ومواقفه متى تعلّق الأمر بالمجال العربيّ وذلك بالنّظر لدقّة الوضع العربيّ المعقّد والمملوء بالمصاعب والأزمات المتفاقمة والمشاكل المترامية.
وأمام كلّ هذا، فإنّه من المحرّم على المثقّف العضويّ العربيّ أن يعمل بما لا يتوافق مع المصلحة القوميّة العربيّة العليا، ولا يعني هذا حصره في المجال العربيّ فقط، ذلك أنّ الفعل الثّقافيّ أوسع من بيئته بداهة، ولكن لا يستوي أن يكون هذا الفعل بما هو تثقيفيّ تحفيزيّ غافلا عن الالتصاق بهموم تلك الحاضنة ومحاولة السّعي لطرح مشاغلها وما يتراءى وفقه – أي الفعل المثقّف - من حلول في غيرها من البيئات الأخرى والتي لا يمكن إقامة حواجز تحول دون الولوج إليها، ليصار بذلك الهدف من أيّ انتشار محتمل خدمة قاعدة الانطلاق من خلال الاشتباك والاختلاط والتّفاعل مع قواعد التّواصل أو التّماسّ.
ووسط هذه الشّروط الدّنيا المتوجّب توفّرها في المثقّف العربيّ، بالنّظر لمتطلّبات المرحلة الرّاهنة، يكاد الحديث فعليّا عن هذا المثقّف العضويّ العربيّ ضربا من ضروب الأمانيّ أو أضغاث الأحلام.
إلاّ أنّ المثير حقّا أنّ يصرّ بعض الإعلاميّين خصوصا على تقديم بعض المشبوهين على أنّهم مثقّفين وقامات فكريّة يصبح الإنصات لما يصدر عنهم ضرورة أكيدة وحاجة ماسّة، قافزين على ما يحرّكهم حتّى غدا أغلبهم مجرّد دمى بأيدي تتوزّع بن الظّاهرة وبين الخفيّة. ولعلّ من أبرز هذه الأسماء التي طفت على السّاحة العربيّة في العقدين الأخيرين – وهما أحد أكثر الحقبات اكتظاظا وصخبا وترديّا شاملا – وبلا ريب هو معن بشور.
إنّنا وبصرف النّظر عن الدور المخجل الذي أنيط بمعن بشور وتماهى معه فيما بعد وصار من أشدّ المتحمّسين له والمتمثّل في انحرافه بالمؤتمر القوميّ عن أهدافه وفلسفته بأن صيّره مجرّد تجمّع لا غاية له سوى التّسويق لإيران وتبييض برامجها الشّيطانيّة ومخططّاتها الجهنّميّة ومكائدها ومؤامراتها وتهديداتها للعرب، وهو ما حدا بخيرة المناضلين القوميّين العرب لمغادرة ذلك الفضاء ولحسمهم في أمره للحدّ الذي اعتبروه منتهيا وفاقدا لكلّ صلوحيّة أو شرعيّة، فإنّنا سنعكف بالردّ في هذه المقالة على ما جاء في تصريح لهذا الرّجل في مفتتح كلمته باسم الوفود المشاركة في "المؤتمر الدّوليّ للحوار الثّقافيّ العربيّ الإيرانيّ نحو العقلانيّة والاعتدال "الذي انعقد على مدى ثلاثة أيّام في عدّة مدن إيرانيّة، واختتم أعماله في جامعة الفردوسي في مدينة مشهد بإشراف عدّة جامعات ومراكز بحوث إيرانيّة وبحضور حوالي 100 مشارك من العديد من الأقطار العربيّة حيث قال:
"إنّ الحوار الثّقافيّ العربيّ الإيرانيّ هو المدخل الأسلم للحوارات الأكثر تعقيداً كالسّياسة والأمن والاقتصاد والنّفط، وأنّ أيّ حوار حقيقيّ ينبغي أن يستحضر الرّأي الآخر ويستمع الى ملاحظاته واعتراضاته وهواجسه كي تتحقّق الفوائد المرجوّة".
كما أكّد بشور في كلمته أنّ أيّ مستقبل للعلاقات العربيّة الإيرانيّة مرهون بأمرين:
1) أدراك عربيّ على المستوي الرّسميّ والشّعبيّ أنّ إيران تشكّل عمقاً استراتيجيّا وحضاريّا للأمّة العربيّة لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله.
2) وثانيهما إدراك إيرانيّ رسميّ وشعبيّ بطبيعة الهواجس والمخاوف التي تحيط بنظرة بعض العرب تجاه إيران ودورها وسياساتها والسّعي لطمانتهم ومعالجة الأسباب والجذور.
إنّ المتبصّر في النّقطة الأولى من هذا الكلام الصّادر عن بشور سيتبيّن حقيقة الغايات التي تحرّكه أو الأدوار المكلّف بلعبها، حيث لا يمكن لأيّ عاقل أن يتقبّل ما يبشّر به بشور ويروّج له للحدّ الذي أباح فيه لنفسه باعتبار أنّ إيران تشكلّ العمق الاستراتيجيّ والحضاريّ للأمّة العربيّة وارتقى بهذا الزّعم لدرجة تحريم التّشكيك فيه. إذ لا يستوي وجوبا الحديث عن العمق الاستراتيجيّ والحضاريّ للعرب خصوصا متى تعلّق الآمر بإيران، إلاّ إذا كان لهذا العمق مفاهيم ومدلولات جديدة لا نعرفها ولم تحدّثنا بها العلوم الاستراتيجيّة وهي بالتّالي مفاهيم أسّسها بشور ومن معه ومن هم على شاكلته وهنا ندعوه بكلّ لطف لعرض هذه التّعريفات وبسطها للعالم حتّى يتمّ الخوض فيها ومناقشتها ومن ثمّ التّقرير بصلوحيّتها من عدمها.
أيّ عمق هذا الذي يدّعيه معن بشور لإيران، ليدعونا ضمنيّا للقبول بها لا جارا فقط وإنّما شريكا ذا فضل عظيم؟ وأيّ فضل حضاريّ لإيران على العرب طيلة تاريخها؟؟
لا نعلم ما المراد من هذا الكلام إلاّ إذا عدنا لأغوار التّاريخ، تلك التي ستصعقنا وتصعق بشور وتفحمه بصفحات الغدر الفارسيّة الإيرانيّة الطّويلة وبسلسة التّآمر المفتوحة بالعرب، ولا نعتقد أن بشور مثلا يقصد في منحه الفضل الحضاريّ لإيران هنا تآمر كورش مع يهود أصفهان لإسقاط إحدى أعظم الحضارات في التّاريخ وهي الحضارة البابليّة، ولا نخاله مثلا يعني ما كان من الطّوسي وابن العلقمي والصّفويّة والخمينيّة فيما بعد. ولعلّ ما بالعهد من قدم لنتبيّن بعدا من أبعاد العمق الاستراتيجيّ الإيرانيّ للعرب والذي تكشّف بإصرار إيران وساستها على الغدر بالعراق حيث يذكّر مسؤولو طهران في كلّ مرّة بموجب وبدونه بالدّور الرّياديّ الذي لعبته طهران خلال الغزو الأمريكيّ الصهيونيّ للعراق عام 2003، كما أنّ الجرائم التي تديرها وتشرف عليها إيران في العراق والأحواز العربيّة وسوريّة واليمن وبلدان الخليج وإذكاء النّزاعات الطّائفيّة اليوم ناهيك عن التّغيير الدّيموغرافيّ لا يمكن أن يمتّ لمثل ما يتحدّث عنه معن بشور بصلة.
أمّا النّقطة الثّانية منه فإنّها في الواقع لا يمكن إلاّ أن تبعث موجة من السّخريّة من بشور الذي أصرّ على مزيد تلطيخ سمعته في وحل الارتماء في براثن ولاية الفقيه حتّى أضحى عرّاب مشروعها التّوسّعيّ الاستيطانيّ الشّعوبيّ العنصريّ، حيث يتحدّث عن هواجس ومخاوف تسيطر عن بعض العرب وتحيط بنظرتهم نحو إيران، لنتوجّه بسؤال قديم جديد لمعن بشور ومفاده:
-كيف يجرؤ معن بشور على الحديث باسم مئات ملايين العرب، فيحصر ما يعبّر عنه بمخاوف – يلمّز لكونها غير مبرّرة – في بعض العرب؟ فهل منحه الكلّ والسّواد الأعظم العربيّ تفويضا ليتكلّم باسمه وليقرّر بدلا عنه؟
ثمّ أليس من الاستخفاف بالعرب في كلام بشور هذا، أن يطالب جميع العرب بالانفتاح على إيران من جهة، ثمّ ولمّا تصبح إيران في موضع الاتّهام يلوذ بالتّبعيض وحصر الرّيبة والتّوجّس من المشروع الفارسيّ محصورا في قلّة قليلة من العرب ربّما لو أتيحت الفرصة لبشور لسمّاهم بالمتطرّفين والغلاة وغير ذلك؟
أيستوي أن يشمل الزّجّ بالعرب لبيت الطّاعة الفارسيّ كلّ العرب، ولا يقتصر العداء لإيران إلاّ على زمرة قليلة منهم؟
ثمّ أيّ عرب هؤلاء الذين يعنيهم بشور في دعوته لهم بالتّطبيع الكلّي مع إيران؟ فمن حيث البروتوكولات والمعايير القانونيّة، هناك زهاء 22 قطر عربيّ، فما هي بالتّالي سلطات بشور للحديث باسمهم جميعا؟
أما كان أحرى به في أشدّ الأحوال سوءا أن يتكلّم باسم القطر الذي ينتمي إليه دونما يعوّم مسألة الصّراع العربيّ الفارسيّ ويبرزه بهذه الطّريقة المخاوزة التي تكاد تعلو عقيرته بالصّياح أن أدينوا العرب؟؟
هذا ولم تكتف شطحات معن بشور عند هذا الحدّ، بل أضاف:
سألني صديق: "كيف تذهب وأنت العروبيّ الى إيران؟. "فأجبته على الفور لأنّني عروبيّ أذهب الى إيران لأّنّ مدرسة العروبة التي ننتمى إليها هي عروبة الانفتاح على الأمم الأخرى، عروبة الحوار والتّكامل مع الأمم والشّعوب المتساكنة معنا في إقليم واحد، عروبة المصارحة فيما بيننا، عروبة المقاومة لكل غاز أو محتلّ بل لكلّ مشروع يسعى إلى الفرقة والانقسام بيننا كأمم تجمعها حضارة مشتركة وعقيدة واحدة ومصير واحد ومصالح متبادلة."
وهنا تحديدا تكمن الطّامّة الكبرى في تصريح معن بشور، فهو لا يكتفي بارتكاب جريمة لا تغتفر تتمثّل في الانغماس في محور معادي لمصالح الجماهير العربيّة وتعمل على تذبيح عروبتهم، بل يسعى لإيجاد تبرير فقهيّ وسياسيّ لفعلته النّكراء.
صحيح يا سيّد بشور أنّ العروبة إنسانيّة التّوجّه بطبعها، وتقوم على الحوار والتّكامل مع الشّعوب والأمم الأخرى، ولكنّها أيضا هي عروبة المقاومة..
لكن، عروبتنا التي ننتمي إليها وتخونها أنت فعلا وممارسة وتنظيرا وتبريرا، ليست أبدا تلك العروبة المستسلمة الخانعة الخاضعة.. وحتّى المقاومة التي استدللت بها فقط لذرّ الرّماد في العيون وللإشارة لسماجة محور المقاومة والممانعة الذي تدّعي طهران وتروّج لها أنت كذلك، تزّعمه وريادته بوجه العدوّ الصّهيونيّ ليست هي نفس المقاومة التي تنهل من معيننا العربيّ، معيننا نحن لا معينك الآسن.
كيف تدّعي الانتماء لعروبة المقاومة وأنت تروّج لاحتلال الفرس للأحواز العربيّة وللجزر الإماراتيّة الثّلاث وللعراق ناهيك عن سوريّة ولبنان؟
أليس هذا تناقضا صارخا أوقعت نفسك بنفسك فيه؟ فالعروبة المقاومة الأصيلة لا تفاضل بين احتلال وآخر، ولا تساوم ولا تهادن غازيا دون آخر إلاّ إذا اعتبرت الحرب الطّائفيّة القذرة التي تشنّها إيران يوميّا على العراق مثلا تحريرا وغير ذلك من الشّعارات؟
أمّا حديثك عن اشتراك عروبتنا مع إيران في الدّين، فإنّ إيران لا تعتنق الدّين الإسلاميّ ولا غيره من الأديان السّماويّة، بل إنّها تدين بدين غريب هجين مبتل هو دين الخميني.
هذا، وإنّ معن بشور في كلّ حديثه هذا يحاول إلقاء اللاّئمة على الرعب فيظهرهم في ثوب الرّافض للحوار والمتشبّث بالعزلة وغير ذلك، وهو بفعلته تلك يتعمّد المزج بين الشّعوب الإيرانيّة من خارج القوميّة الفارسيّة وبين الفرس، حيث أنّنا كعرب نجيد التّفرقة تماما بين الشّعوب الإيرانيّة ومنظومة ولاية الفقيه، فلا عداء بيننا العرب مثلا وبين الأذربيجيّين والبلوش مثلا..
وتبقى المفارقة الكبرى التي تلفّ كلّ ما يحيط بمعن بشور وبالمتساقطين أمثاله من أدعياء الفكر والثّقافة، أن يحاضر في مؤتمر ينهي أشغاله في جامعة الفردوسي، ويدعو العرب لاعتبار إيران عمقهم الاستراتيجيّ الحضاريّ ولا ينتبه لكون الفردوسي صاحب الشّاهنامة وهي إحدى أكبر الآثار العنصريّة الحاقدة على العرب في التّأريخ البشريّ كلّه.
وهكذا، يصرّ مرّة أخرى معن بشور على أن يخون مبادئه التي انطلق منها أو التي عرفه عبرها العرب قديما، ويستميت في خدمة المشروع الفارسيّ البغيض لتتعمّق سقطاته وتردّيه نحو العمالة والغدر المركّب، ليظلّ السّؤال مفتوحا: متى يدرك المثقّف العربيّ أنّه لن يكون مثقّفا ولن تحترمه الجماهير ولا التّاريخ متى خان أمّته في كبريات معاركها الوجوديّة والمصيريّة.
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 25-01-2017