منذ هزيمة أمريكا في العراق واندحارها فيه أواخر عام 2011 وتسليمه لإيران وأذرعها العسكريّة والميليشياويّة الإرهابيّة الطّائفيّة، اقتصر التّواجد الأمريكيّ العسكريّ هناك على القواعد العسكريّة وبعض وحدات حماية السّفارة والقنصليّات الأمريكيّة ومراقبة بعض المقرّات الحسّاسة التي لا تسمح الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالاقتراب منها، كما حافظ ما يمسّى بالمستشارين العسكريّين على تواجدهم بتعلّة تقديم إمّا العون للعمليّة السّياسيّة المتهالكة أو متابعة تطوّرات الوضع عن كثب تحسّبا لأيّ طارئ ناهيك عن الرّقابة الجوّية الصّارمة إذ ظلّ الجوّ في العراق تابعا للطّيران الأمريكيّ تبعيّة مطلقة لا يمكن لأحد الولوج إليه إلاّ بمباركة أمريكا والتّنسيق المسبق معها.
ولقد أطنب أقطاب ما يسمّى بالمنطقة الخضراء في الحديث عن عدم وجود عسكريّ أمريكيّ مباشر بل وبلغ الأمر بالمجرم حيدر العبادي مثلا في كلّ العمليّات الإرهابيّة التي تنفّذها الميليشيّات العاملة تحت إمرته لإنكار وجود قوّات أجنبيّة في العراق ولا فيما يسمّيه بعمليّات التّحرير وهي عمليّات تدمير ممنهجة ومدروسة لما بقي من العراق في حقيقة الأمر.
إلاّ أنّه، وعلى خلاف التّأكيدات والسّياسات الأمريكيّة القائلة باستحالة معاودة انتشار الجيش الأمريكيّ على أرض العراق، حلّت بالعراق وتحديدا بغربه دفعة عسكريّة أمريكيّة أولى تقدّر عددها بأربعة آلاف جنديّ في الفترة الممتدّة بين أواخر ديسمبر 2016 وأوّل شهر جانفي 2017 في انتظار وصول ألفي عنصر قريبا حسب تصريحات أحد ضبّاط جيش العبادي.
فما هي أسباب عودة القوّات الأمريكيّة وما هي دلالاتها؟
لا يمكن تفسير عودة القوّات الأمريكيّة للعراق من خارج الأهداف الأمريكيّة من وراء غزو العراق وما توليه للسّاحة العراقيّة من اعتبارات مركزيّة فيها، فالأمريكان ما كانوا ليغادروا العراق لولا ما لحق بهم من هزيمة مطبقة ومدوّية وعجزهم على تجاوز ما ألحقته بهم المقاومة الوطنية العراقيّة الباسلة من خسائر فادحة لا في الأرواح والمعدّات العسكريّة فقط بل والتّداعيات الاقتصاديّة الكارثيّة ناهيك عن التّبعات الأخلاقيّة التي ستظلّ تؤرق العقل الأمريكيّ مهما حاول إخفاء ذلك وإنكاره.
هذا وتندرج هذه العودة بكلّ تأكيد في دائرة أولى التّحوّلات المنتظرة في انتقال السّلطة في أمريكا من الإدارة الدّيمقراطيّة للجمهوريّين برئاسة دونالد ترامب وتوجّهاته المعلنة رغم ما يرافقها من بعض انفلات.
فترامب وكما أفصحت عن ذلك تصريحاته وحواراته ووعوده الانتخابيّة، وعلى عكس سلفه أوباما، ينظر بعين الرّيبة والتّوجّس لتنامي النّفوذ الإيرانيّ في العراق، وعليه فإنّ الاقتصار في تحديد أسباب عودة القوّات الأمريكيّة للعراق على مجرّد مساعدة سلطة الاحتلال في حسم عمليّاتها في الموصل وكلّ الغرب العراقيّ هو قول منقوص.
فالإدارة الأمريكيّة، وخاصّة بثوبها الجمهوريّ وهو الأكثر تصلّبا ومحافظة، لا يمكنها أن تظلّ مكتوفة الأيدي أمام تغيّرات الوضع الأخيرة في منطقة الشّرق الأوسط .
حيث يعتبر العقل الأمريكيّ ما يحدث على الأرض السّوريّة وتصاعد الدّور الرّوسيّ وتقارب موسكو من تركيا أمرا من شأنه هزّ صورة أمريكا في العالم وإفقادها بعضا من السّطوة والجاه، ولا يمكن تصوّر قبول الأمريكان بتغييب واشنطن ولو على مستوى البروتوكولات الرّسميّة من المفاوضات الدّائرة بشأن الوضع في سوريّة والمتمثّلة خصوصا في المفاوضات الجارية في الأستانا والتي تضمّ الرّوس والأتراك والإيرانيّين فقط.
وعليه، فإنّ الولايات المتّحدة مضطرّة للرّدّ بأيّ شكل على سحب زمام الأمور منها بهذا الوضوح، وهو ما يجبرها على النّزول بكلّ ثقلها في السّاحة الأهمّ ألا وهي العراق.
وإنّه من البداهة بمكان أن ندرج مثل هذا التّحرّك المفاجئ في إطار انطلاق الأمريكان في التّراجع عن حساباتهم جميعها خصوصا تلك المتعلّقة بالعراق، فالولايات المتّحدة لا يمكنها أن تبقى داعمة للأبد لسلطة بات تحمّل فشلها وجرائمها وتوثّق ارتباطها بإيران يوما بعد يوم سبب صداع حقيقيّ لها. تزجّ أمريكا إذن بجنودها مرة أخرى في العراق لاستباق أيّ انفلات وأيّة حماقة قد ترتكبها طهران بالتّعكّز على علاقتها مع الرّوس وتغلغلها في أغلب الطّيف السّياسيّ العراقيّ المشكّل من رحم الاحتلال.
ولا يجب ههنا أيضا إسقاط السّيناريو المعروف والأخطر وهو تهيئة الظّروف لتقسيم العراق وفَدْرلته، إذ يحضرنا سؤال في غاية الأهمّية والخطورة ومفاده:
لماذا غرب العراق تحديدا؟؟ ولماذا لا نرى هذه التّعزيزات في شرق العراق أي على حدوده مع إيران وهي مناطق ملتهبة او معدّة للانفجار في أيّة لحظة؟ وهنا تحديدا، علينا الانتباه لما خلّفته الميليشيّات الطّائفيّة من دمار غير مسبوق أينما حلت سواء في الفلوجة أو الرّمادي أو تكريت وحتّى الموصل حاليّا، وهو الدّمار الذي يأتي في سياق التّغيير الدّيمغرافيّ التي تنتهجها إيران وتتواطؤ معها أمريكا وإن كانت حسابات كليهما متناقضة مع الآخر. أفلا يجوز مثلا القول إنّ التّواجد في الغرب العراقيّ يهدف أمريكيّا لإعلان دويلة سنّيّة تبيح منطقيّا إنشاء مقابل لها وهي دويلة شيعيّة في الشّرق والجنوب، ما يسمح بدوره لإعلان انفصال في الشّمال الكرديّ؟؟
هذا ولا يجب أبدا التّغافل عن التّحوّل المفاجئ في موقف تركيا من علاقاتها التاريخيّة مع أمريكا للحدّ الذي ذهبت فيه إدارة أنقرة للتّهديد الجريئ وغير المسبوق بعزمها على معاودة النظر في قاعدة أنجرليك من أساسها.
وعليه فلن يكون أمام ترامب من سبيل لتعويض مثل هذه النّقطة الفارقة إلاّ بالنّزول مجدّدا على أرض بلاد الرّافدين حتّى يعلم الطّامحون أنّ الحلّ لا يزال بيد الأمريكان حصرا وأنّهم اللاّعب الرّئيسّ في المنطقة والعالم.
إنّ مثل هذا القرار الأمريكيّ، قد يفتح أبوابا أخرى ويشي بمراجعة أمريكيا لجملة من تكتيكاتها ولم لا استراتيجيّاتها أيضا، بما قد يشكّل بداية مرحلة جديدة تقطع فيها مع كلّ الخيارات السّابقة في العراق.
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام.
تونس في 13-01-2017